اغتيال هنية- إرهاب دولة وعجز إسرائيلي أمام تعويض المقاومة

المؤلف: د. عمار علي حسن10.16.2025
اغتيال هنية- إرهاب دولة وعجز إسرائيلي أمام تعويض المقاومة

إن اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية يمثل "إرهاب دولة" بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، وهو فعل لا يمت بصلة إلى قوانين وأعراف الحرب وتقاليدها ومقتضياتها، ولا حتى بتاريخ الصراعات. فقد كان هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، شخصية تتحرك بكل وضوح وجلاء، ويجتمع مع ممثلي الدول للتفاوض، وكانت تربطه بمفاوضي إسرائيل قنوات اتصال ووسطاء ذهابًا وإيابًا.

لم يكن هنية قائدًا عسكريًا ميدانيًا ليبرر لإسرائيل قتله، فلطالما تجنب المتحاربون عبر التاريخ، بقدر ما أمكنهم، قتل الشخصيات السياسية، حتى وهم يقتلون القادة العسكريين ويتباهون بذلك، وذلك لأن السياسيين يُعتبرون مدنيين، وقتلهم يجلب العار على الشرف العسكري ويخدشه.

ولكن الجيش الإسرائيلي، الذي يبدو أنه لا يعترف بأي تقاليد أو أعراف أو قوانين، ولا يلتزم بأي شرف عسكري، أقدم على قتل رجل سياسة، في وقت يعجز فيه، وبعد مرور أكثر من ثلاثمائة يوم على الحرب، عن الوصول إلى قادة المقاومة الميدانيين البارزين.

وفي هذا السياق، لا يسع المرء إلا أن يتذكر مقولة أخت الشهيد صالح العاروري – القيادي الفلسطيني الذي اغتالته إسرائيل قبل شهور – : "كل طفل فلسطيني قائد". فمن يراقب عن كثب رجال المقاومة الفلسطينية يلاحظ بسهولة قدرتهم الدائمة على التعويض وسد الفراغ، وغالبًا ما يكون اللاحق أكثر كفاءة وجدارة من السابق.

فالمقاومة تتمتع بقدرة فائقة على تعويض القيادات المفقودة. فالجماعات والتنظيمات والفصائل المقاومة تقوم بتربية أتباعها في ظل تسلسل قيادي مدروس ومنظم، وتضع في الحسبان أن رجالها مستهدفون باستمرار، وقد يتعرضون للقتل أو السجن أو النفي والإبعاد عن الساحة. ولذا، فإنها تحرص كل الحرص على أن تجعل مخزونها البشري مليئًا بالبدائل، فإذا غاب شخص وترك فراغًا، سرعان ما يتم ملؤه بشخص آخر، يكون قد تم إعداده وتجهيزه لهذا اليوم.

وليست التنظيمات ذات الأيديولوجيات السياسية الدينية استثناءً من هذه القاعدة الراسخة، بل هي تمارسها وتطبقها ربما أكثر من غيرها، كما تشهد على ذلك تجربتها الغنية ليس في فلسطين فحسب، بل أيضًا في جميع الدول الإسلامية التي تواجدت فيها، وعاشت في خطر دائم، أو انخرطت في تحديات عسيرة، سعيًا لتحقيق أهدافها النبيلة.

وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، تزداد التحديات صعوبة وتعقيدًا أمام هذه التنظيمات والفصائل، فهي مستهدفة على مدار الساعة، ولا تتاح لها فرصة لالتقاط الأنفاس، ومطالبة بالعمل النضالي الدؤوب والمستمر بلا هوادة، وأن تظل غريزة البقاء لديها متيقظة على الدوام، في الوقت الذي تجد فيه صعوبات جمة في التعبئة والتجنيد.

هناك ثلاثة أمور جوهرية وأساسية تتعلق بقدرة المقاومة الفلسطينية على تعويض قياداتها، أو ملء الفراغ الكبير الذي يترتب على فقدان بعضهم من خيرة القادة. أول هذه الأمور هو أن هذه التنظيمات قد اعتادت الموت غير الطبيعي لقادتها، فهؤلاء لا يضمنون البقاء على قيد الحياة حتى يبلغوا أرذل العمر، إذ يمكن أن تخطفهم يد الموت في أي لحظة، حتى لو كانوا خارج الأراضي المحتلة، بفعل ذراع سلاح الجو الإسرائيلي الطويلة الممتدة. وقد لا يُقتلون، ولكن يتم اقتيادهم إلى غياهب السجون ويقبعون فيها زمنًا طويلًا، معزولين عن الميدان، في حال هي أشبه بالموت.

إن إسرائيل لم تتوقف يومًا عن تعقب القيادات الفلسطينية منذ اغتيال غسان كنفاني في لبنان عام 1972 وحتى قتل العاروري مؤخرًا، مرورًا بالعديد من القادة البارزين الآخرين، مثل: الشيخ أحمد ياسين، وفتحي الشقاقي، وأبو علي مصطفى، وحسن سلامة، وعبد العزيز الرنتيسي، بل إنها قتلت ياسر عرفات نفسه بالسم، كما يؤكد الكثيرون، لكن الساحة الفلسطينية تمكنت على الفور من التعويض وسد الثغرات وترميم الكسور.

الأمر الثاني يتعلق بغزارة التعرض لمهارات اكتساب القيادة لدى حركات المقاومة. فبالإضافة إلى التدريب المكثف الذي يتم على هذا، فإن أسلوب حرب العصابات الذي تتبعه المقاومة يجعل الفرد فيها مجهزًا بشكل كامل لاتخاذ القرار الصائب، أو إصدار الأمر لنفسه في ساحة القتال، وليس مقيدًا، مثل الجندي في الجيش النظامي، بالأوامر التي تأتيه من قيادته المباشرة، والتي تكون بدورها قد تلقتها من قيادة تعلوها.

أما الأمر الثالث، فيرتبط بالتركيبة العمرية للعاملين في العمل المسلح، حيث يجب أن يكونوا جميعًا أو أغلبيتهم الساحقة من الشباب القادرين على القتال والمواجهة، وتسود فيهم هذه الروح الشبابية المتقدة، مما يمنحهم فرصًا متواصلة لإفراز العناصر المؤهلة للعب أدوار قيادية متميزة.

وكان على حركات المقاومة الفلسطينية أن تغذي حياتها على الدوام بصنفين أساسيين من القيادات: الأول هو قيادات عسكرية ميدانية تخرج من رحم التدريب الشاق والكتمان الأشد، والآخر هو قيادات سياسية، تتمتع بهامش من الخطاب المرن، والحركة الحرة نسبيًا، وهي تتعامل مع الداخل الفلسطيني في تنظيم شؤونه وإدارتها، ومع العالم الخارجي، حيث التمثيل السياسي، وإعلان المواقف، والتفاوض.

توضع صور هؤلاء القادة على جدار النضال الفلسطيني زمنًا طويلاً، ويعتاد الناس على وجوههم وملامحهم، لكنهم يستيقظون ذات صباح ليجدوا أنهم قد اختفوا، وهنا يثور التساؤل: من بوسعه أن يأتي بعد هؤلاء القادة، ويعوض غيابهم الفادح؟ ولا تمر سوى ساعات قليلة حتى يجد المتسائلون وجهًا جديدًا قد بزغ إليهم، وأطل عليهم، ليملأ عيونهم بالأمل والتفاؤل.

إن المقاومة تدرك تمام الإدراك أن مسيرتها نحو التحرر طويلة وشاقة ومليئة بالعقبات، ولذا فإنها تتصرف كما تفعل شركات الطيران في رحلاتها الطويلة، فتضع إلى جانب الطيار مساعدًا له لا يقلّ عنه كفاءة ومهارة، أو يمتلك القدرة نفسها على أن يوصل الطائرة بسلام إلى محطة الوصول النهائية إذا ما حدث للطيار الأصلي أي مكروه. ويصبح هذا الأمر ضرورة حتمية وأكثر إلحاحًا في الرحلات الطويلة جدًا.

وبطبيعة الحال، فإن جميع المجتمعات السليمة المعافاة، والدول في أوج قوتها ومنعتها، تمتلك قدرة فائقة على إنتاج البدائل في جميع المجالات، بما في ذلك القيادات الإدارية، والسياسية، والعسكرية، بل وفي الاقتصاد والثقافة أيضًا. لكن هذا الأمر مع فصائل المقاومة، وفي أي زمان ومكان، يختلف في مسألتين جوهريتين: الأولى هي أن القيادة تكون في الغالب مغرمًا وليست مغنمًا، خاصة بالنسبة للقيادات العسكرية والأمنية، التي عليها أن تضع رؤوسها على أكفها طوال الوقت. والثانية هي أن وتيرة الإحلال والإبدال في القيادات عند المقاومين تكون أسرع بكثير من غيرهم.

لا يعني كل هذا أن المقاومة لا تتكبد خسائر فادحة بقتل أو غياب بعض قادتها، لا سيما النجباء الأذكياء الشجعان منهم، ولكن هذا بعض قدرها المحتوم، الذي تؤمن به وتسلم به، بل يمكن أن يفيدها في كثير من الأحيان، لأن القتل، على بشاعته وفظاعته، يمنح قادتها فرصة سانحة ليبرهنوا ويثبتوا للجميع أن مصيرهم لا يختلف قيد أنملة عن مصير أفراد المجتمعات الحاضنة للمقاومين، وأن دماءهم ليست أزكى ولا أثمن من دماء الذين يساندونهم ويدعمونهم، ويعولون عليهم في تحقيق النصر.

أقول في الختام: إن إسرائيل المنهزمة والمتخبطة في غزة، تتوق إلى أي جرعة من النشوة الزائفة والعابرة، بل إنها تستعيض عن عجزها الفاضح بالهروب إلى الأمام عن طريق شن حرب شاملة على لبنان أو باغتيال بعض الشخصيات البارزة سواء من حماس أو حزب الله. ولكن المقاومة تمتلك قدرة متجددة ودائمة على التعويض وسد النقص.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة